فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

سورة التكوير:
روى أبو عبد الله الحاكم في (صحيحه) من حديث عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ قوله تعالى: {إذا الشمس كورت}».
وفي قوله تعالى: {كورت} أربعة أقوال.
أحدها: أظلمت، رواه الوالبي عن ابن عباس، وكذلك قال الفراء: ذهب ضوؤها، وهذا قول قتادة، ومقاتل.
والثاني: ذَهَبَتْ، رواه عطية عن ابن عباس، وكذلك قال مجاهد: اضمحلَّتْ.
والثالث: غُوِّرَتْ، روي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، وابن الأنباري، وهذا من قول الناس بالفارسية: كُورْبكرد.
وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: هو بالفارسية كورُبورْ.
والرابع: أنها تُكَوَّرُ مثل تكوير العمامة، فتلفُّ وتمحى، قاله أبو عبيد.
قال الزجاج: ومعنى {كورت} جمع ضوؤها، ولُفَّتْ كما تلف العمامة.
ويقال: كورت العمامة على رأسي أُكوِّرُها: إذا لَفَفْتَها.
قال المفسرون: تُجمع الشمس بعضُها إلى بعض، ثم تُلَفُّ ويرمى بها في البحر.
وقيل: في النار.
وقيل تعاد إلى ما خلقت منه.
قوله تعالى: {وإذا النجوم انكدرت} أي: تناثرت، وتهافتت.
يقال انكدر الطائر في الهواء: إذا انقضَّ {وإذا الجبال سيرت} عن وجه الأرض، فاستوت مع الأرض {وإذا العشار عطلت} قال المفسرون وأهل اللغة: العشار: النوق الحوامل، وهي التي أتى عليها في الحمل عشرة أشهر فقيل لها: العشار لذلك، وذلك الوقت أَحْسَنُ زَمَانِ حَمْلِها، وهي تضع إذا وَضَعَتْ لتمامٍ في سنة، فهي أنفس ما للعرب عندهم، فلا يعطلونها إلا لإتيان ما يَشْغَلهم عنها، وإنما خوطبت العرب بأمر العشار، لأن أكثر عيشهم ومالهم من الإبل.
ومعنى {عطلت} سُيِّبَتْ وأُهْمِلَتْ، لإشتغالهم عنها بأهوال القيامة.
قوله تعالى: {وإذا الوحوش} يعني: دوابَّ البحر {حشرت}.
وفيه قولان.
أحدهما: ماتت، قاله ابن عباس.
والثاني: جمعت إلى القيامة، قاله السدي.
وقد زدنا هذا شرحاً في [الأنعام: 111].
قوله تعالى: {وإذا البِحار سجرت} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو {سجرت} بتخفيف الجيم، وقرأ الباقون بتشديدها.
وفي المعنى ثلاثة أقوال:
أحدها: أُوقِدَتْ فاشتعلت ناراً، قاله على وابن عباس.
والثاني: يبست، قاله الحسن.
والثالث: ملئت بأن صارت بحراً واحدًّا، وكثر ماؤها، قاله ابن السائب، والفراء، وابن قتيبة.
قوله تعالى: {وإذا النُّفوس زوجت} فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: قرنت بأشكالها، قاله عمر رضي الله عنه.
الصالح مع الصالح في الجنة، والفاجر مع الفاجر في النار، وهذا قول الحسن، وقتادة.
والثاني: رُدَّت الأرواح إلى الأجساد، فَزوجت بها، قاله الشعبي.
وعن عكرمة كالقولين.
والثالث: زوجت أنفس المؤمنين بالحور العين، وأنفس الكافرين بالشياطين، قاله عطاء، ومقاتل.
قوله تعالى: {وإذا الموؤودة سئلت} قال اللغويون: الموؤودة: البنت تُدْفَن وهي حَيَّةٌ، وكان هذا من فعل الجاهلية.
يقال: وَأَدَ وَلَدَهُ، أي: دفنه حياً.
قال الفرزدق:
وَمِنَّا الَّذِي مَنَعَ الوَائِدَا ** تِ فَأَحْيَا الوَئِيدَ وَلَمْ يُوأَدِ

يعني: صعصعة بن صوحان، وهو جَدّ الفرزدق.
قال الزجاج: ومعنى سؤالها: تبكيت قاتليها في القيامة، لأن جوابها: قتلت بغير ذنب.
ومثل هذا التبكيت قوله تعالى: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين} [المائدة: 116].
وقرأ على بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو عبد الرحمن، وابن يعمر، وابن أبي عبلة، وهارون عن أبي عمرو {سَأَلَتْ} بفتح السين، وألف بعدها {بأيِّ ذنب قتلت} بإسكان اللام، وضم التاءَ الأخيرة.
وسؤالها هذا أيضاً تبكيت لقاتليها.
قال ابن عباس: كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت، فكان أوان ولادها حفرت حفيرة، فتمخَّضت على رأس الحفيرة، فإن ولدت جارية رَمَتْ بها في الحفيرة، وإن ولدت غلاماً حبسته.
قوله تعالى: {وإذا الصحف نشرت} قرأ نافع، وعاصم، وأبو جعفر، وابن عامر، ويعقوب {نشرت} بالتخفيف، والباقون بالتشديد.
والمراد بالصحف: صحائف أعمال بني آدم تنشر للحساب {وإذا السماء كشطت} قال الفراء: نُزِعَتْ، فطُوِيَتْ.
وفي قراءة عبد الله {قُشِطَتْ} بالقاف، وهكذا تقوله قيس، وتميم، وأسد، بالقاف.
وأما قريش، فتقوله بالكاف، والمعنى واحد.
والعرب تقول: القافور، والكافور، والقسط، والكسط.
وإذا تقارب الحرفان في المخرج تعاقبا في اللغات، كما يقال: حَدَثٌ، وَحدَتٌ.
قال ابن قتيبة: كُشِطَتْ كما يُكْشَطُ الغِطَاء عن الشيء، فطُوِيَتْ.
وقال الزجاج: قلعت كما يقلع السقف.
و{سعرت} أُوقدت.
وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم {سعرت} مشددة.
قال الزجاج: المعنى واحد.
إلا أن معنى المشدد: أُوقدت مرة بعد مرة.
و{أُزْلِفَتْ} قُرِّبَتْ من المتقين.
وجواب هذه الأشياء {علمت نفس ما أحضرت} أي: إذا كانت هذا الأشياء عَلِمَتْ في ذلك الوقت كلُّ نفس ما أحضرت من عمل، فأثيبتْ على قدر عملها.
وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال في قوله تعالى: {علمت نفس ما أحضرت}: لهذا جرى الحديث.
وقال ابن عباس: من أول السورة إلى هاهنا اثنتا عشرة خصلة، ستة في الدنيا، وستة في الآخرة.
قوله تعالى: {فلا أقسم} لا زائدة، والمعنى: أقسم {بالخُنَّس}.
وفيها خمسة أقوال.
أحدها: أنها خمسة أنجم تَخْنُس بالنهار فلا تُرى، وهي زُحَل، وعُطَارد، والمشتري، والمرِّيخ، والزُّهرة، قاله على، وبه قال مقاتل، وابن قتيبة.
وقيل: اسم المشتري: البرجس.
واسم المريخ: بهرام.
والثاني: أنها النجوم، قاله الحسن وقتادة على الإطلاق، وبه قال أبو عبيدة.
والثالث: أنها بقر الوحش، قاله ابن مسعود.
والرابع: الظباء، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير.
والخامس: الملائكة، حكاه الماوردي.
والأكثرون على أنها النجوم.
قال ابن قتيبة: وإنما سماها خُنَّساً، لأنها تسير في البروج والمنازل، كسير الشمس والقمر، ثم تَخْنُس، أي: ترجع، بينا يرى أحدها في آخر البروج كَرَّ راجعاً إلى أوله، وسماها كُنَّساً، لأنها تكنس، أي: تسير كما تكنس الظباء، وقال الزجاج: تخنس، أي: تغيب، وكذلك تكنس، أي: تغيب في المواضع التي تغيب فيها.
وإذا كان المراد الظباء فهو يدخل الكناس، وهو الغصن من أغصان الشجر.
ووقف يعقوب على {الجواري} بالياء.
قوله تعالى: {والليل إذا عسعس} فيه قولان.
أحدهما: ولَّى، قاله ابن عباس، وابن زيد، والفراء.
والثاني: أقبل، قاله ابن جبير، وقتادة.
قال الزجاج: يقال: عسعس الليل: إذا أقبل.
وعسعس: إذا أدبر.
واستدل من قال: إن المراد: إدباره بقوله تعالى: {والصبح إذا تَنَفَّس} وأنشد أبو عبيدة لعلقمة بن قرط:
حتى إذا الصُّبْحُ لها تَنَفَّسا ** وإنجاب عنها لَيْلُها وعَسْعَسَا

وفي قوله تعالى: {تَنَفَّس} قولان.
أحدهما: أنه طلوع الفجر، قاله على وقتادة.
والثاني: طلوع الشمس، قاله الضحاك.
قال الزجاج: معناه: إذا امتد حتى يصير نهاراً بَيِّناً.
وجواب القسم في قوله: {فلا أقسم بالخُنَّس} وما بعده قوله: {إنه لقول رسول كريم} يعني: أن القرآن نزل به جبريل.
وقد بيَّنَّا هذا في [الحاقة: 40].
ثم وصف جبريل بقوله تعالى: {ذي قوة} وهو كقوله تعالى: {ذو مرة} وقد شرحناه في [النجم: 6] {ذي قوة عند ذي العرش مكين} يعني: في المنزلة {مُطَاع ثَمَّ أمين} أي: في السموات تطيعه الملائكة.
فَمِنْ طَاعَةِ الملائكة له: أنه أَمَرَ خازن الجنة ليلة المعراج حتى فتحها لمحمد صلى الله عليه وسلم فدخلها ورأى ما فيها، وأمر خازن جهنم ففتَح له عنها حتى نظر إليها.
وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وابن مسعود، وأبو حيوة، (ثم) بضم الثاء.
ومعنى {أَمين} على وحي الله ورسالاته.
قال أبو صالح: أمين على أن يدخل سبعين سرادقاً من نور بغير إذن.
قوله تعالى: {وما صاحبكم بمجنون} يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم، والخطاب لأهل مكة.
قال الزجاج: وهذا أيضاً من جواب القسم، وذلك أنه أقسم أن القرآن نزل به جبريل، وأن محمداً ليس بمجنون كما يقول أهل مكة.
قوله تعالى: {ولقد رآه بالأفق المبين} قال المفسرون: رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل على صورته بالأفق، وقد ذكرنا هذا في سورة [النجم: 7].
قوله تعالى: {وما هو} يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم {على الغيب} أي: على خبر السماء الغائب عن أهل الأرض {بضنين} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، ورويس، {بظنين} بالظاء، وقرأ الباقون بالضاد.
قال ابن قتيبة: من قرأ بالظاء، فالمعنى: ما هو بمُتَّهم على ما يخبر به عن الله، ومن قرأ بالضاد، فالمعنى: ليس ببخيل عليكم بعلم ما غابَ عنكم مما ينفعكم.
وقال غيره: ما يكتمه كما يكتم الكاهن ليأخذ الأجر عليه.
قوله تعالى: {وما هو} يعني: القرآن {بقول شيطان رجيم} قال مقاتل: وذلك أن كفار مكة قالوا: إنما يجيء به الشيطان، فيلقيه على لسان محمد.
قوله تعالى: {فأين تذهبون} قال الزجاج: معناه: فأيَّ طريق تسلكون أَبْيَنَ من هذه الطريقة التي قد بَيَّنَتُ لكم؟ {إن هو} أي: ما هو، يعني: القرآن {إلا ذكر للعالمين} أي: موعظة للخلق أجمعين {لمن شاء منكم أن يستقيم} على الحق والإيمان.
والمعنى: أن القرآن إنما يتعظ به من استقام على الحق.
وقد بيَّنَّا سبيل الإستقامة، فمن شاء أخذ في تلك السبيل.
ثم أعلمهم أن المشيئة في التوفيق إليه بما بعد هذا، وقد بَيَّنَّا هذا في سورة [الإنسان: 30] قال أبو هريرة: لما نزلت {لمن شاء منكم أن يستقيم} قالوا: الأمر إلينا، إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، فنزل قوله تعالى: {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين} وقيل: القائل لذلك أبو جهل.
وقرأ أبو بكر الصديق، وأبو المتوكل، وأبو عمران: {وما يشاؤون} بالياء.
فصل:
وقد زعم بعض ناقلي التفسير أن قوله تعالى: {لمن شاء منكم أن يستقيم} وقوله تعالى في [عبس: 12] {فمن شاء ذكره} وقوله تعالى في سورة [الإنسان: 29] وفي سورة [المزمل: 18] {فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا} كله منسوخ بقوله تعالى: {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله} ولا أرى هذا القول صحيحاً، لأنه لو جاز وقوع مشيئتهم مع عدم مشيئته توجَّه النسخ.
فأما إذ أخبر أن مشيئتهم لا تقع إلا بعد مشيئته، فليس للنسخ وجه. اهـ.

.قال الخازن:

قوله: {إذا الشّمس كورت}
قال ابن عباس: أظلمت، وغورت، وقيل اضمحلت، وقيل لفت كما تلف العمامة، وأصل التكوير جمع بعض الشيء إلى بعض ومعناه أن الشّمس يجمع بعضها إلى بعض، ثم تلف فإذا فعل بها ذلك ذهب ضوءها، قال ابن عباس: يكور الله الشّمس، والقمر، والنّجوم يوم القيامة في البحر، ثم يبعث عليها ريحاً دبوراً فتضربها فتصير ناراً.
(خ) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشّمس والقمر يكوران يوم القيامة» قيل إن الشّمس، والقمر، جمادان فإلقاؤهما في النّار يكون سبباً لازدياد الحر في جهنم.
{وإذا النّجوم انكدرت} أي تناثرت من السماء، وسقطت على الأرض.
قال الكلبي وعطاء: تمطر السّماء يومئذ نجوماً، فلا يبقى نجم إلا وقع {وإذا الجبال سيرت} أي عن وجه الأرض، فصارت هباء منثوراً.
{وإذا العشار عطلت} يعني النوق الحوامل التي أتى عليها عشرة أشهر من حملها، واحدتها عشراء، ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع لتمام سنة، وهي أنفس مال عند العرب فإذا كان ذلك اليوم عطلت، وتركت هملاً بلا راع أهملها أهلها، وقد كانوا لازمين لأذنابها ولم يكن مال أعجب إليهم منها لما جاءهم من أهوال يوم القيامة.
{وإذا الوحوش} يعني من دواب البر {حشرت} أي جمعت يوم القيامة ليقتص لبعضها من بعض.
وقال ابن عباس: حشرها موتها قال: وحشر كل شيء موته غير الجن والإنس، فإنهما يوقفان يوم القيامة.
{وإذا البحار سجرت} قال ابن عباس: أوقدت فصارت ناراً تضطرم، وقيل فجر بعضها في بعض العذاب، والملح حتى صارت البحار كلها بحراً واحدًّا وقيل صارت مياهها من حميم أهل النّار، وقيل سجرت أي يبست، وذهب ماؤها فلم تبق فيها قطرة.
قال أبي بن كعب: ست آيات قبل يوم القيامة، بينما النّاس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشّمس، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على الأرض، فبينما هم كذلك إذ تناثرت النّجوم فتحركت، واضطربت، وفزعت الإنس، والجن، واختلطت الدّواب، والطّير، والوحش، وماج بعضهم في بعض.
فذلك قوله تعالى: {إذا الشّمس كورت وإذا النّجوم انكدرت وإذا الجبال سيرت وإذا العشار عطلت وإذا الوحوش حشرت وإذا البحار سجرت} فحينئذ تقول الجن للإنس: نحن نأتيكم بالخبر، فينطلقون إلى البحر، فإذا هو نار تأجج، فبينما هم كذلك إذ انصدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى، وإلى السماء السابعة العليا، فبينما هم كذلك إذ جاءتهم ريح فأماتتهم، وعن ابن عباس قال: هي اثنتا عشرة خصلة ستة في الدنيا، وستة في الآخرة، وهي ما ذكر بعد هذه.
وهو قوله تعالى: {وإذا النفوس زوجت} روى النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن هذه الآية، فقال: يقرن بين الرّجل الصّالح مع الرجل الصالح في الجنة، ويقرن بين الرجل السّوء مع الرجل السوء في النّار، وقيل ألحق كل امرئ بشيعته اليهود باليهود، والنصارى بالنصارى، وقيل يحشر الرجل مع صاحب عمله، وقيل زوجت النّفوس بأعمالها، وقيل زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين، وقرنت نفوس الكافرين بالشّياطين، وقيل معنى زوجت ردت الأرواح إلى الأجساد.
{وإذا الموءودة سئلت} يعني الجارية التي دفنت، وهي حية سميت بذلك لما يطرح عليها من التراب، فيئدها، أي يثقلها حين تموت، وكانت العرب تفعل ذلك في الجاهلية.
تدفن البنات حية مخافة العار، والحاجة، وروي عن ابن عباس قال: كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت، وكان أوان ولادتها حفرت حفيرة، فتمخضت على رأس الحفيرة فإن ولدت جارية رمت بها في الحفيرة، وإذا ولدت غلاماً حبسته، وقيل كان الرجل في الجاهلية إذا ولدت له بنت، وأراد بقاءها حية ألبسها جبة صوف، أو شعر وتركها ترعى الإبل، والغنم في البادية، وإذا أراد قتلها تركها حتى تشب، فإذا بلغت قال لأمها طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها، وقد حفر بئراً في الصّحراء، فيبلغ بها البئر فيقول لها: انظري فيها، فإذا نظرت دفعها من ورائها، ويهيل عليها التراب حتى تستوي بالأرض، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الوائدة، والموءودة في النّار» أخرجه أبو داود، وكان صعصعة بن ناجية ممن منع الوأد، ولم يئد فافتخر به الفرزدق في شعره فقال:
ومنا الذي منع الوائدات ** وأحيا الوئيد فلم توأد

{بأي ذنب قتلت} معناه تسأل الموءودة، فيقال لها، بأي ذنب قتلت، ومعنى سؤالها لها توبيخ قاتلها.
لأنها قتلت بغير ذنب.
{وإذا الصحف نشرت} يعني صحائف الأعمال تنشر للحساب {وإذا السّماء كشطت} أي نزعت، وطويت، وقيل قلعت كما يقلع السقف، وقيل كشفت، وأزيلت عمن فيها.
{وإذا الجحيم سعرت} أوقدت لأعداء الله تعالى: {وإذا الجنة أزلفت} أي قربت لأولياء الله.
{علمت نفس ما أحضرت} يعني عند ذلك تعمل كل نفس ما أحضرت من خير، أو شر وهذا جواب لقوله إذا الشّمس كورت إلى هنا.
قوله: {فلا أقسم} لا زائدة والمعنى أقسم، وقد تقدم ذلك في قوله: {لا أقسم بيوم القيامة} {بالخنس الجوار الكنس} يعني النّجوم تبدو بالليل، فتظهر، وتخنس بالنهار تحت نور الشّمس، ونحو هذا المعنى روي عن علي بن أبي طالب، وقيل هي النّجوم الخمسة زحل، والمشتري، والمريخ، والزهرة، وعطارد، تخنس في مجاريها، أي ترجع وراءها في الفلك، وتنكس، أي تستر وقت اختفائها، وقيل إنها تخنس، أي تتأخر عن مطالعها، والكنس معناه أنها لا ترى بالنهار، وقيل هي الظباء، وهي رواية عن ابن عباس، وأصل الخنوس الرّجوع إلى وراء، والكنوس هو أن تأوي إلى كناسها، وهو الموضع الذي يأوي إليه الوحوش.
{واللّيل إذا عسعس} أي أقبل بظلامه وقيل أدبر، والعسعسة رقة الظّلام، وذلك يكون في طرف الليل.
{والصّبح إذا تنفس} أي أقبل وبدا أوله وقيل أسفر.
وفي تنفسه قولان أحدهما: أن في إقبال الصبح روحاً، ونسيماً فجعل ذلك نفساً على المجاز الثاني، أنه شبه الليل بالمكروب المحزون، فإذا تنفس وجد راحة، فكأنه تخلص من الحزن، فعبر عنه بالتنفس، فهو استعارة لطيفة، ولما ذكر المقسم به أتبعه بالمقسم عليه فقال تعالى: {إنه} يعني القرآن {لقول رسول كريم} يعني جبريل والمعنى أن جبريل نزل به عن الله: {ذي قوة} وكان من قوته أنه اقتلع قرى قوم لوط الأربع من الماء الأسود، وحملها على جناحه، فرفعها إلى السماء، ثم قلبها، وأنه أبصر إبليس يكلم عيسى على بعض عقاب الأرض المقدسة، فنفحه بجناحه نفحة ألقاه إلى أقصى جبل بالهند، وأنه صاح صيحة بثمود، فأصبحوا جاثمين، وأنه يهبط من السّماء إلى الأرض، ثم يصعد في أسرع من رد الطّرف {عند ذي العرش مكين} أي في المنزلة والجاه {مطاع ثم} أي في السموات تطيعه الملائكة، ومن طاعة الملائكة له أنهم فتحوا أبواب السّموات ليلة المعراج بقوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفتح خزنة الجنة أبوابها بقوله: {أمين} يعني على وحي الله تعالى إلى أنبيائه {وما صاحبكم} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم يخاطب كفار مكة {بمجنون} وهذا أيضاً من جواب القسم أقسم على أن القرآن نزل به جبريل وأن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس بمجنون كما يقول أهل مكة، وذلك أنهم قالوا إنه مجنون، وأن ما يقوله ليس هو إلا من عند نفسه فنفى الله عنه الجنون، وكون القرآن من عند نفسه.
{ولقد رآه} يعني رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل على صورته التي خلق فيها {بالأفق المبين} يعني بالأفق الأعلى من ناحية المشرق حيث تطلع الشّمس، وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه الصّلاة والسّلام «إني أحب أن أراك في صورتك التي تكون فيها في السّماء قال: لن تقوى على ذلك قال، بلى قال فأين تشاء أن أتخيل لك قال بالأبطح، قال لا يسعني ذلك، قال: فبمنى قال لا يسعني ذلك قال فبعرفات، قال: لا يسعني ذلك قال بحراء قال إن يسعني فواعده فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت.
فإذا هو بجبريل قد أقبل من حيال عرفات بخشخشة، وكلكله قد ملأ ما بين المشرق، والمغرب، ورأسه في السماء، ورجلاه في الأرض، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم خر مغشياً عليه، فتحول جبريل عن صورته، وضمه إلى صدره، وقال: يا محمد لا تخف، فكيف لو رأيت إسرافيل، ورأسه تحت العرش، ورجلاه في تخوم الأرض السابعة، وإن العرش لعلى كاهله، وإنه ليتضاءل أحياناً من مخافة الله جلّ جلاله وعلا علاؤه وشأنه حتى يصير كالصّعو، يعني العصفور حتى ما يحمل عرش ربك إلا عظمته»
{وما هو} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم {على الغيب} أي الوحي وخبر السّماء، وما اطلع عليه مما كان غائباً عن علمه من القصص والأنباء.
{بضنين} قرأ بالظاء، ومعناه بمتهم والمظنة التهمة، وقرئ {بضنين} بالضاد، ومعناه ببخيل يقول إنه يأتيه علم الغيب، ولا يبخل به عليكم، ويخبركم به، ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ما عنده حتى يأخذ عليه حلواناً، وهو أجرة الكاهن، وقراءة الظاء أولى لأنهم لم يبخلوه، وإنما اتهموه، فنفى الله عنه تلك التهمة، ولو أراد البخل لقال وما هو بالغيب.
{وما هو} يعني القرآن {بقول شيطان رجيم} يعني إن القرآن ليس بشعر، ولا كهانة كما قالت قريش، وقيل كانوا يقولون إن شيطاناً يلقيه على لسانه، فنفى الله ذلك عنه، {فأين تذهبون} أي فأين تعدلون عن القرآن، وفيه الشفاء، والهدى، والبيان، وقيل معناه أي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد بينت لكم.
{إن هو} يعني ما في القرآن {إلا ذكر للعالمين} أي موعظة للخلق أجمعين {لمن شاء منكم أن يستقيم} أي يتبع الحق، ويقيم عليه، وينتفع به ثم بين أن مشيئة العبد موقوفة بمشيئته فقال تعالى: {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين} أعلمهم الله أن المشيئة في التوفيق للاستقامة إليه، وأنهم لا يقدرون على ذلك إلا بمشيئة الله، وتوفيقه، وفيه إعلام أن أحدًّا لا يعمل خيراً إلا بتوفيق الله تعالى؛ ولا شراً إلا بخذلانه، ومشيئته والله تعالى أعلم. اهـ.